
بعيدا عن «عساكر» الجزيرة.. ٤ ملاحظات حول التجنيد الإجباري
مهند حامد شادي
بعيدا عن «عساكر» الجزيرة.. ٤ ملاحظات حول التجنيد الإجباري
انتفض الاعلام المصري وجن حنونه عندما سمع بأن هناك فيلما وثائقيا صنعته قناة الجزيرة حول حال المجندين في الجيش المصري، وجاء الدفاع الاعلامي المستميت عن الجيش والهجوم المتهافت رغم ضراوته على الجزيرة وقطر، كمثال لحالة من العبث السياسي والتقزيم للدولة المصرية دأب النظام على انتهاج أساليبها لكي تتلائم مع حجمه ومستواه.
مسألة التجنيد الإجباري تعد من الأمور الخطيرة والمهمة في عملية التغيير التي طالبت بها ثورة يناير.
إلا أنه وبعيدا عن الفيلم وفنياته ومستواه، فإن مسألة التجنيد الإجباري تعد من الأمور الخطيرة والمهمة في عملية التغيير التي طالبت بها ثورة يناير، لذا فمن الممكن أن نسرد عدة ملاحظات عليها آملين أن نخرج من حالة الجنون الإعلامي الحالي لمساحة من النقاش العقلاني البناء.
(مصدر الصورة: حساب Mostafa Taher)
أولا: هل كان التجنيد دائما هو «دفع لضريبة الدم»؟
تاريخيا كان التجنيد أول صدمة للمجتمع المصري مع فكرة الدولة الحديثة، فعندما بدأ محمد علي بناء دولته الحديثة، بناها على الجيش، أو بمعنى أدق فهو قد بنى الجيش ثم بنى له دولة تخدم هذا الجيش، وبالرغم من كونها قصة طويلة ولطيفة ومهمة، إلا أن ما يهمنا منها أن هذه الدولة حينما تعاملت مع المجتمع كان التجنيد الإجباري هو أحد أهم هذه التعاملات، وفي الحقيقة كان تعاملا قاسيا جدا، لدرجة جعلت المصريين يتهربون منه بإحداث عاهات مستديمة في أنفسهم للتهرب، بفقء العيون وقطع الأصابع وما شابه، فضلا -بالطبع- عن الهرب الفعلي من القرى عندما تأتي تجريدة الجهادية لجمع الشباب والرجال للالتحاق بالجيش. الأمر الذي أبدع في بيان تفصيله خالد فهمي في كتابه «كل رجال الباشا».
ومن ثم كان التجنيد أحد أدوات قمع المجتمع لصالح الدولة، بعدها بدأ ظهور فكرة وخطاب ضريبة الدم والوطنية والشرف وكل الديباجات التي نعرفها الآن، والتي تمت إضافتها على وسيلة قمعية من الأساس لإعطاءها صبغة شرعية ومقبولة في أذهان الناس.
ثانيا: هل نحن «بدعة» وسط الأمم: حال التجنيد في بلاد العالم
دوليا، هناك ما يقارب ال 61 دولة من أصل 221 دولة في العالم بها تجنيد عسكري إجباري، 21 دولة منهم تبلغ مدة التجنيد أقل من سنة، فيما تصل المدة في 8 دول منهم أقل من 18 شهر، بينما تصل في ال32 المتبقين أكتر من 18 شهر.
في المقابل هناك 105 دولة تقريبا لا يوجد بها تجنيد عسكري إجباري، فضلا عن 19 دولة لا يوجد بها جيش من الأساس (أو يوجد بها قوات نظامية قليلة للغاية). هناك دول تقدم اختيار التجنيد الإختياري، أي أن من حق المواطن رفض التجنيد في الجيش، وفي المقابل يقوم إما بخدمة مدنية أو خدمة في وحدات غير مسلحة أو خدمات غير قتالية، وبالطبع فكل نوع يختلف عن الآخر.
وبإلقاء نظرة على خمسة من أكبر وأقوى الجيوش في العالم، نجد أن بريطانيا وفرنسا على سبيل المثال لا يوجد بها تجنيد إجباري، بينما نجد أن أمريكا التي تملك أقوى جيوش العالم والمنتشرة في كافة أنحاء الكرة الأرضية بقواعد عسكرية فيما يزيد عن 60 دولة، بقوات تبلغ ربع مليون فرد حول العالم خارج أمريكا، هذا الجيش لا يوجد به تجنيد إجباري وإنما يتم تسجيل الشباب في سن معين حتى إذا ما قامت حالة تستدعي التجنيد الإجباري (مثل الحرب مثلا) تصبح عملية التجنيد وقتها يسيرة. الصين كأكبر جيش من ناحية العدد التجنيد بها - بالرغم من كونه نظريا (قانونيا) إلزامي - إلا إنه في الواقع لا يتم تطبيقه نظرا للكم المهول من التعداد السكاني وكذلك الأعداد الكبيرة التي تقوم بالتطوع في الجيش. فيما قامت روسيا بتخفيض مدة التجنيد الإجباري للنصف، مع وجود حالات متعددة للاستثناء من التجنيد. بينما معظم دول أوروبا والدول الغربية عموما لا يوجد بها تجنيد إجباري بالرغم من أن جيوش هذه الدول تعد من أقوى الجيوش عالميا إن لم تكن أقواها.
(مصدر الصورة: ويكيبديا، اللون الأحمر: يوجد خدمة إلزامية، اللون اللبني: لا توجد خدمة إلزامية فعليا، اللون الأصفر: دول تستهدف إلغاء الخدمة الإلزامية)
ثالثا: عن المعارضة الأخلاقية للتجنيد الإجباري
أحد حقوق الانسان المستحدثة هو حق «المعارضة الأخلاقية»، وهو أن يرفض الشخص التجنيد في الجيش أو المشاركة في الحرب نتيجة الحق في التعبير، الضمير، العجز، الدين إلخ. أصدرت الأمم المتحدة من خلال مفوضية حقوق الانسان عدة قرارات منها قرار 59 لسنة 89 و83 لسنة 95 و77 لسنة 98 كلها تدعم هذا الحق بإعتباره منبثقا عن المادة 18 من الاعلان العالمي لحقوق الانسان والخاصة بحرية الاعتقاد. فيما تدعم العديد من الدول هذا الحق لأفرادها ولا تعتبره هربا من التجنيد أو مخالفا للقانون. روسيا على سبيل المثال، هذه الدولة ذات التاريخ الطويل من القمع وسياسة التجنيد فيها إجبارية، تعطي هذا الحق لمواطنيها في رفض الخدمة العسكرية لأسباب دينية أو أيديولوجية وتجعلهم يقومون بخدمية مدنية (كالرعاية الصحية أو البناء إلخ) كبديل.
رابعا: اخواتنا في الأفارول
حال المجندين في مصر معلوم للجميع، وبعيدا عن وثائقي الجزيرة، فهناك العديد من التوثيقات الأخرى لمهازل أكبر وأخطر تحدث في التجنيد مثل وثائقي البي بي سي «الموت في الخدمة» والذي يحكي عن حالات وفاة لمجندين وليس مجرد تعامل غير آدمي أو تكدير وما شابه، فضلا عن العديد من الشهادات سواء المكتوبة (سلسلة مقالات حسام سرحان مثلا) أو غيرها من عشرات الشهادات لأشخاص خدموا في الجيش من خلال التجنيد. هذا الواقع المزري شديد القسوة يضاف إليه أمرين:
1. مخاطر الفساد العالية داخل المؤسسة العسكرية، وقد كتبت مسبقا عن هذا الأمر مستعرضا تقرير منظمة الشفافية العالمية فرع بريطانيا حول الشفافية في المؤسسات العسكرية والذي يصدر سنويا، أكتفي هنا بإيراد جزء منه «بالنسبة للتقييم الخاص بمصر، الحقيقة أن الوضع مزري للغاية، مصر تقع في الدرجة F وهي بتصنيف المعيار درجة حرجة في مخاطر فساد المؤسسة العسكرية ..... ولهواة المقارنات، فمصر –طبقا لهذا التصنيف- أصبحت مثل سوريا والعراق وليبيا واليمن، لأنهم يقعوا في نفس التصنيف F، فيما تتفوق علينا دول عربية مثل لبنان والأردن والسعودية والامارات، كذلك تتفوق علينا أثيوبيا وأفغانستان (!!) وجميعهم في الفئة E، تونس الشقيقة والتي نحب دائما مقارنة تجربتنا بتجربتهم تتفوق علينا حيث تقع في الفئة D» والفئة F هي الأسوء في فئات التقرير.
الحديث عن التجنيد وسياسات التجنيد في مصر مهم، حتى ولو كان الظرف الحالي وربما المستقبلي القريب (أو حتى الماضي القريب) لن يؤدي لهذا التغيير.
2. النقطة التانية هي ما يتعرض له «اخواتنا في الأفارول» خاصة في سيناء، نتيجة سوء التدريب وضعف التخطيط وفشل السياسات المواجهة للتنظيمات المسلحة في سيناء. تقرير مؤسسة التحرير للربع الثاني من 2016 يشير إلى ارتفاع عدد الهجمات في الربع الثاني عن الربع الأول من نفس العام (228 هجوم مقابل 211 هجوم في الربع الأول)، بينما حصدت شمال سيناء على 86% من عدد الهجمات التي تمت في مصر في الست شهور الاولى من 2016، حوالي 195 هجوم. وخص التقرير الهجمات المستخدمة للعبوات الناسفة بالذكر، حيث أشار إلى أنها في ازدياد عام من ربع سنوي لآخر في عدد الهجمات من هذا النوع، حتى وصلنا لعدد 105 هجمات في الربع التاني من 2016، بمعدل هجمة واحدة في اليوم. وكلنا نتذكر بالطبع أن أمريكا أهدت مصر عدد كبير من المدرعات المضادة للألغام، لكن يبدو أن مصيرها في المخازن، بدليل كم الشهداء الذين نفقدهم كل يوم نتيجة الهجوم بالعبوات الناسفة.
إذا ما تحدثنا عن كيفية معاملة الجنود في الجيوش الأخرى فسيكون الوضع محرج للغاية بالنسبة لنا، وربما يكون ذلك موضوع مقال لاحق. إلا أننا في النهاية يمكننا القول أن الحديث عن التجنيد وسياسات التجنيد في مصر مهم، حتى ولو كان الظرف الحالي وربما المستقبلي القريب (أو حتى الماضي القريب) لن يؤدي لهذا التغيير، لكن الاشتباك في هذه المساحات وغيرها في ظني مهم وضروري، ربما في يوم من الأيام نستطع تغيير وضع السخرة الذي يتم فرضه من أجل قمع المجتمع وتجنيده من أجل خدمة المصالح الاقتصادية للمؤسسة العسكرية.ب